الزراعة في ظل الاقتصاد النفطي العربي

 عَقد المشروع ورشة العمل الأولى في الفترة 24-25 يونيو/حزيران 2011 بهدف إنشاء شبكة من الباحثين في علم الإنسان الإجتماعي والاقتصاد والهندسة الزراعية المهتمين بالمشكلات التي يواجهها المجتمع الريفي، الذي يشكل مصدراً للغذاء والعمالة في الاقتصاد العربي. إن المنطقة التي كانت ذات يوم مهد الزراعة، باتت اليوم تمثل المناطق الأكثر افتقاراً إلى الأمن الغذائي في العالم. وكثيراً ما يُنظر إلى الاعتماد الشديد على الغذاء المستورد على أنه مشكلة تقنية ناجمة عن الجدب الطبيعي الذي يتفاقم بسبب التغيُّر المناخي، أو عن النمو السكاني، أو السياسة الخاصة بالاقتصاد العام، وهذا العامل الأخير هو الأقل تناولا. إن هذه جميعاً تشكل عوامل حاسمة، ومع ذلك فإن البحوث التي تتناول التغيير الذي طرأ على المناطق الريفية بشكل تكاملي لا تزال نادرة للغاية. فعلى مستوى الاقتصاد العام ينبغي أن يتساءل المرء، بالقدر نفسه، عن ارتباط انعدام الأمن الغذائي في المنطقة بالارتفاع الحاد وغير المسبوق في مستويات البطالة وبتفاوت الدخل وبالنـزاع المسلح الدولي. وعلى المستوى الاجتماعي- الاقتصادي المحلي ينبغي أن يستكشف المرء مدى ارتباط نمو الزراعة الرأسمالية الأوسع نطاقاً ببقاء (أو زوال) زراعة الحيازات الصغيرة وعمل الرجال والنساء. إن هدفنا هو العمل على الجمع بين الخبراء في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والهندسة الزراعية من أجل تطوير البحوث الميدانية لفهم الأسباب التي تحول دون الإمكانيات الإنتاجية للمجتمعات الزراعية والرعوية الريفية، وبالتالي اقتراح التدخلات والتغييرات في السياسات لإطلاق تلك الإمكانيات.

فيما يلي تقرير موجز حول ورشة العمل التي عُقدت في يونيو/ حزيران 2011. ومن المقرر عقد ورشة عمل ثانية أوسع في يناير/ كانون الثاني 2012 في عمان، حيث نتطلع إلى أن يكون عدد المشاركين معنا من المنطقة أكبر منه فيما لو عُقدت الورشة في لندن. وفي هذا الصدد نعرب عن امتناننا لمركز دراسات الشرق الأوسط وقسم الأنثروبولوجيا في جامعة لندن للاقتصاد، ونتقدم بشكر خاص إلى الأكاديمية البريطانية على الدعم الذي تقدمه لورشات العمل هذه.


 

تنظيم ورشة العمل التي عُقدت في عام 2011

قبل ورشة العمل

دُعي المشاركون في ورشة العمل للتحدث حول العمل الريفي وإنتاج الغذاء من منظورهم الخاص، ولتوصيف حالة الأبحاث المتعلقة بموضوعاتهم وقبل انعقاد ورشة العمل تم تحديد موضوعات معينة طُلب من المشاركين تناولها:

أ) السياسة الخاصة بالاقتصاد العام وأزمة الأنظمة الزراعية: إلى أي مدى تتسبب السياسات الاقتصادية الوطنية والعامة بجعل قطاعات زراعية بأكملها غير قادرة على البقاء.

ب) العلاقة بين الهجرة العربية إلى البلدان النفطية الخليجية وأنماط الهجرة الآسيوية الأوسع نطاقاً: هل هناك جوانب مشتركة في تجارب المهاجرين الريفيين العرب، سواء كانوا من المهاجرين حديثاً أو من مهاجري الجيل السابق، وبين المهاجرين الآسيوين المعاصرين إلى دول الخليج الرئيسية المنتجة للنفط؟

ج) تحليل قطاع الإنتاج الزراعي ككل متكامل، حيث يجتمع نمط إنتاج المحاصيل الزراعية والإنتاج الحيواني مع غيره من الأعمال الإنتاجية الأخرى داخل المزرعة وخارجها، أي كيف يترابط الإنتاج الرعوي والإنتاج الزراعي اليوم؟

د) العلاقة بين الهجرة الريفية الخارجية للذكور وبين الطبيعة المتغيرة للإنتاج وعمل المرأة في المناطق الريفية.

 

النتائج وتطوير أسئلة البحث

انصبَّ زخم النقاش على الضغط من أجل إيجاد أُطر تحليل أكثر تكاملية، وعلى العمل مع أولئك الموجودين على الأرض، ممن كانوا يسعون إلى التصدي لأزمات القطاع الزراعي في الاقتصادات العربية.

وقد حاجج الباحثون في مجال الهندسة الزراعية بأن تحليل استخدام الأرض أو "المشهد الطبيعي للأرض"، إذا أردنا أن نستخدم مصطلحاً أكثر جمالية، سمح باندماج المفاهيم المتصلة بالأشكال المادية (الاستيطان، أنواع الفلاحة، الري، التكنولوجيا على الأرض، الحيوانات ومربُّوها) والسيرورات الحية لحيازة الأرض (الملكية المشاعية وملكية الدولة والملكية الخاصة)، والإنتاج والعمل. إن التوثيق التاريخي القاطع "للمشهد الطبيعي للأرض" يمكن أن يكشف عن وجود عقبات أمام الإنتاج الرعوي، وعن سجل للتحولات في أشكال وسائل المعيشة والإنتاج. ولذا فقد رأى هؤلاء الباحثون إبراز أهمية التأكيد على توثيق "المشهد الطبيعي للأرض" كأداة يُسترشَد بها.

أما الباحثون في مجال اقتصاد التنمية فقد أيَّدوا ضرورة توثيق مقاييس التحول الزراعي على مدى العقود الأخيرة بعبارات كلاسيكية، من قبيل الأُطر القانونية والإدارية لملكية الأرض وحقوق الحيازة أو الريع، والصفة القانونية للعمل الزراعي (من حيث العلاقة بالنوع الاجتماعي)، والفروق داخل القطاع الزراعي من حيث الحجم وعلاقات العمل والرسملة والسوق. وأعرب هؤلاء عن شعورهم بأن موطن قوة الشبكة المتمثل في الجمع بين البحث الميداني الأنثروبولوجي – الذي يحاول فهم وتوثيق التجربة المعاشة للناس- ومنظورات الاقتصاد الكلي والتحليل الهندسي الزراعي يمثل تحديا لإستعمالات العلوم الإجتماعية المجردة في شرعنة مضلِّلة لسياسات أدت مرة تلو أخرى إلى نتائج مختلفة جذريا عن الإنجازات التي وعدت بها تلك السياسات.

وتم الاتفاق على أهمية وضع مبدأ "السيادة الغذائية/الاستقلال الغذائي"، أي السيطرة على إنتاج المواد الغذائية الأساسية وإعطاء الأولوية له، في المقدمة كنقيض لمبدأ "الأمن الغذائي". فالمبدأ الأول فتح منظور المشاركة الفاعلة في الإنتاج على المستويين الوطني والإقليمي، بينما نحا الثاني منحى التعامل مع "العجز في الغذاء" كمشكلة كمية تتعلق بالتبادل التجاري الدولي والتوزيع. وقد جرى تمييز النظر إلى أنماط استهلاك الغذاء من حيث ارتباطه بالإنتاج المحلي والإقليمي- أي النظام الغذائي والمطبخ كسمات ثقافية واقتصادية أساسية- كنقيض للنظر إلى الغذاء على أنه مجرد كميات المواد الغذائية العالمية المطروحة لاستهلاك الأفواه والأسواق. وترتَّب على ذلك خلق إدارة معينة للسوق لمصلحة "السيادة الغذائية".

وأُثير سؤال حول ما إذا كان ثمة حالياً إطار إقليمي للتحليل يتجاوز الأعمال المتخصصة للمنظمات الدولية والعربية، وما إذا كان بوسعنا الإسهام في توضيح مثل هذا التحليل الإقليمي، حتى لو بقيت شبكة البحوث الناشئة هذه متواضعة. وبعقد ورشة عمل ثانية في المنطقة، يكون موضوعها أكثر تركيزاً- وهو علاقة نمط الزراعة الصغير ورعي الماشية، الذي يُنظَّم على مستوى العائلة في الأغلب، بالمشاريع الزراعية الأكبر والأكثر رسملةً- فإننا سنكتشف أكثر من ذي قبل إمكانيات تطوير مقاربة بحثية إقليمية متعددة التخصصات.

الإطار الأوسع: الهجرة الدولية والنظام الاقتصادي العالمي (24 يونيو/حزيران)

دراسات حول التحول في أنظمة الإنتاج الغذائي

دراسة حالة للهجرة العربية وانعدام الأمن الغذائي

ملخصات الأوراق المقدَّمة:

 

 

الجلسة 1: العمالة والقطاع الزراعي

 

أندرو غاردنر، الأستاذ المساعد في علم الإنسان، قسم علم الاجتماع المقارن، جامعة بوغت صاوند، الولايات المتحدة- لمحة عن هجرة العمالة إلى المنطقة أو داخلها.

كان غاردنر قد أجرى بحثه في مجال المهاجرين الآسيويين الذكور إلى منطقة الخليج ( البحرين وقطر)، أنظر: مدينة الغرباء: الهجرة إلى الخليج والجالية الهندية في البحرين( 2010). ومن خلال بحثه أثار غاردنر أسئلة ذات طبيعة مقارنة حول إدماج الأيدي العاملة القادمة من المناطق الزراعية من شتى أنحاء العالم في العمل في الدول المنتجة للنفط في شبه الجزيرة العريية، وأوجه الشبه والاختلاف بين العمالة الآسيوية والعمالة العربية المهاجرة، وتقسيم العمل في منطقة الخليج. وغالباً ما يُنظر إلى هجرة العمالة الآسيوية والعربية على نحو منفصل، ولذا فقد حاول غاردنر في حديثه إثارة أسئلة حول تلك العلاقة.

وفي حين أن "المواطنين" في الدول المنتجة للنفط يعملون في الوظائف الحكومية بشكل أساسي، فإن العمال المهاجرين الذين يُقدَّر عددهم بنحو 15- 20 مليون شخص في دول الخليج يعملون بموجب نظام الكفالة، مما يترتب عليه شخصنة التحكم بالعمل. ومع ذلك فإن الهجرة تعتبر بحد ذاتها من محالات الأعمال تحكمها وكالات تشغيل القوى العاملة في الخليج وسماسرة العمل في جنوب آسيا، حيث يكون التضليل في المعلومات أو إخفاؤها جزءاً لا يتجزأ من الأرباح التي يدرُّها هذا النظام. ووجد غاردنر أنه يتعين على المهاجر أن يدفع ما معدله 2000 دولار أمريكي لتأمين عمل له في الخليج. ومن هنا، فإن أحد الأسئلة يتعلق بربحية استيراد العمالة بحد ذاته، وبالتحديد ما إذا كان يتعين على المهاجرين الريفيين العرب أن يدفعوا مبالغ معينة مقدماً كي يضمنوا الحصول على عمل، أو ما إذا كانوا قد مروُّا عبر قنوات مختلفة في الطريق إلى العمل في الخليح ( تتناول ورقة العجمي أدناه دراسة حالة تجيب عن هذه الأسئلة جزئياً).

أما مجموعة الأسئلة المقارنة الأخرى فتتعلق بالتأثير على المناطق الريفية المرسِلة للعمالة بشكل كبير. ومن البديهي القول إن الأشد فقراً من بين الفقراء لا يملكون الوسائل التي تمكِّنهم من الحصول على عمل في البلدان المستقبلة للعمالة المهاجرة، وأن تجربة العمل في الخليج أدت إلى تنامي القيم الاستهلاكية، وخاصة بالنسبة للمهاجرين الذين منعهم حراس الأمن من دخول مجمعات التسوق في المدن التي كانوا يعملون فيها. وفي الطرف المرسل للعمالة كان القرار المتعلق بإرسال مهاجر ذكر (وجمع المال لهذا الغرض) قراراً جماعياً للأسرة وليس قراراً فردياً، الأمر الذي يعزز علاقات العائلة "الممتدة" مقابل علاقات العائلة "النووية". وفي تلك العملية قدَّمت النساء والمسنُّون تضحيات خاصة من حيث توفير النقود والعمل في البلد الأم. وشدد غاردنر على أن البلدان المرسِلة للعمالة، وليس الأسر المحدَّدة فحسب، كانت مُهانة في عملية تصدير العمالة المهاجرة إلى الاقتصادات النفطية. وسأل عما إذا كانت هناك عمليات مشابهة تعمل على المستوى شبه الإقليمي فيما يتعلق بالهجرة العربية، أو فيما إذا كانت العوامل السياسية هي الأساس، إلى حد أن القرارات المتعلقة باستيراد او استبعاد العمالة العربية قد أظهرت أنماطاً مختلفة للغاية.


 

علي القادري، زميل زائر، قسم التنمية الدولية، مدرسة لندن للاقتصاد: استراتيجية العمالة في المشرق العربي بعد الثورات

حاول القادري تشخيص سمة العمل في الاقتصاد النفطي العربي بشكل عام. وكانت ملاحظته الابتدائية تتعلق بكيفية خلق اقتصاد إقليمي، من خلال دورة العوائد النفطية بين الدول المنتجة للنفط والدول العربية الأخرى، تم فيه تمويل الاستهلاك من عوائد النفط، وليس من القيمة المضافة للعمل. ونتيجة لذلك فإن نموذجاً إقليمياً يسود اليوم، ليس في البلدان المستقبلة للعمالة فحسب، وإنما أيضاً في البلدان المرسلة لها وعلى نحو متزايد، وهو نموذج ريعي بات سائداً اليوم على المستوى الإقليمي. وحيثما كانت هناك أنظمة إنتاج أكثر استقلالاً نسبياً، فقد تم إدماجها في النظام الكلي مع مرور السنين. وأشار القادري إلى أن الإحصاءات الرسمية نادراً ما تبين حجم المشكلة: فإذا أخذنا بتعريف العمل على أنه عمل الشخص لمدة لا تقل عن 20 ساعة في الأسبوع، ويلبي احتياجاته الأساسية، فإننا نجد أن معدلات البطالة وصلت إلى حوالي 50% من السكان في سن العمل، وليس 20% كما يرِد عموماً. وبالفعل فإن نحو 25% من القوة العاملة يعملون في القطاع العام، وإن نحو 50% عاطلون عن العمل، مما يعني أن 25% فقط من القوة العاملة يعملون في القطاع الخاص كمتفرغين. ولا يعتبر هبوط الأجور أمراً مفاجئاً، ففي مصر مثلاً هبطت الأجور إلى نصف ما كانت عليه قبل ثماني سنوات. وبالمثل، فإن أساس إنتاج المعرفة صغير للغاية ( تعليم النخب الموجَّه نحو تصدير العمالة الجيدة النوعية إلى الخارج)، كما أن العوائد النفطية تسمح باستيراد التكنولوجيا التي تؤدي إلى تقليص الأيدي العاملة.

وما زال الاقتصاديون التقليديون (والمنظمات الدولية) يفسرون ارتفاع معدلات البطالة (الرسمية) من زاوية عدم مرونة سوق العمل، ويدعون إلى مزيد من إلغاء أنظمة سوق العمل. وفي الحقيقة يُعتبر العرض في الأيدي العاملة مرناً للغاية، والحل المقترح عاجز تماماً عن التصدي للمشكلة. كما أن العمالة تعتبر من القضايا الأقل حظوة بالحماية القانونية. ومن الصعب للغاية أن نتحدث عن الوجود الحقيقي لقانون العمل؛ فعلى سبيل المثال، لا يتضمن قانون العمل الكويتي أي تعريف للأجر أو الراتب. ويواجه المرء اقتصادات إقليمية ذات قدرات إنتاجية منخفضة جداً، ورغم ذلك هي مقيدة بموازين المدفوعات، أي أنها لديها وفرة رأسمالية. إن أي حل لهذه الهيكلية الاقتصادية الكارثية يقتضي اتخاذ إجراء رئيسي من قبل الدولة، بيد أن ذلك غير ممكن بدون إحداث تغيير جذري في سمة الأنظمة وفي العقيدة الاقتصادية التي تعتنقها. إن مثل هذه الدول يجب أن تأخذ إنتاج الغذاء على محمل الجد، شأنه شأن العمل والمعرفة والإنتاج في القطاعات الأخرى؛ كما ينبغي أن تضع استراتيجيات للسيطرة على خصخصة تدفق عوائد النفط إقليمياً ودولياً. وبهذا المعنى، فإن مشكلات القطاع الزراعي ليست سوى أعراض لمشكلات اقتصادية أكبر.

وعلى حد تعبير القادري، فإن بقاء معدلات البطالة الإقليمية في فئة العشرات لمدة تزيد على عشر سنوات، ثم ضعف الاستجابة لارتفاع معدلات النمو الاقتصادي الذي حدث مؤخراً أمر ينطوي على وجود مثالب جوهرية في السياسات المتّبعة. وإن كان الأمر يتعلق ’بالأساسيات الكبيرة‘،وفق منطلقات المؤسسات المالية الدولية، فبحكم الرواج الحالي في أسواق النفط والذي سبق اندلاع الثورات العربية، كانت المتغيرات المعنية في وضع جيد: حيث كانت حسابات مالية الدولة فائضة، ومعدلات التضخم تحت السيطرة، والاحتياطي مرتفعاً عندما كان رؤوس الأموال والحسابات التجارية مفتوحة على مصراعيها. وعلى الرغم من ذلك، فقد ظلت معدلات البطالة ومستويات توزيع الدخل في حالة غير سليمة مقارنة بالمستوى العالمي. فمع غلبة العوائد النفطية، لا تستطيع قطاعات الإقتصاد الإنتاجية الأخرى مجاراة معدلات نمو القوة العاملة، ولا الاستيعاب الكامل للمستويات الأولى لقوة العمل. وفي الحقيقة كانت العمالة في القطاع العام وانخفاض نمو الإنتاجية، إلى حد كبير، نعمة مقنَّعة تشكل صمام أمان اجتماعي في غياب برامج الضمان ضد البطالة. ويشير الجانب المتعلق بالرفاه الاجتماعي لظروف سوق العمل هذه إلى غياب واضح لوصول التأثير إلى الفئات الدنيا؛ والأكثر أهمية من ذلك هو أن نصيب العمالة ظل متدنياً للغاية- بل الأدنى على المستوى العالمي. وكي تأخذ الأمور مساراً بديلاً، يتعين على المرء أن يجعل سياسة خلق فرص عمل عنصراً مركزياً في السياسات الاقتصادية، مع إعادة توزيع العوائد لخلق المزيد من فرص العمل في الأجل القصير، ومنح صفة تفضيلية لرؤوس الأموال والعمالة الإقليمية في الأجليْن المتوسط والطويل. ووفقاً للثورات الأخيرة، فإن أفضل السياسات المتعلقة بالعمالة ينبغي أن توضع في إطار التعاون الإقليمي وباستخدام معيار الفعالية الاجتماعية للعمالة، الذي يدفع بموجبه العمل ذو القيمة الاجتماعية وذو الصلة النفقات المترتبة حالياً من المكتسبات الطويلة الأجل التي يحققها. إن مبدأ الإنصاف، في الظروف العربية، يجب أن يأتي قبل مبدأ الكفاءة عند النيوكلاسيكيين التقليديين. وينبغي أن نتذكر أن التنمية عملية طويلة المدى، وليست تمريناً فصلياً لتقديم التقارير بشأن الأداء المالي.

 

 

الجلسة 2: التحولات في انظمة إنتاج الغذاء

 

رامي زريق، أستاذ العلوم الزراعية والغذائية، كلية الزراعة الجامعة الأمريكية في بيروت تطور الأنظمة الغذائية والطبيعة ووسائل العيش.

يضع زريق مشكلة استخدامات مفهوم " الأمن الغذائي" في إطار أجندات صنع السياسات وبرامج التنمية الدولية والوطنية. ففي الوقت الذي قد تنص سياسات الأمن الغذائي على أن الحق في الغذاء الصحي يجب أن يشمل عناصر " إمكانية الحصول عليه" و "وفرته" و" استخدامه"، فإنها لا تزال مندمجة في مشاريع السوق. ولذا فإن زريق. شأنه شأن نقد القادري حول الأنماط الاقتصادية للبرلة و الخصخصة، يشكك في فعلية إنتاج الغذاء واستدامته في إطار مثل هذه النماذج. وفي حين أن تحرير التجارة ربما يكون قد خلق بعض " الجيوب" التي تتمتع بأمن غذائي في العالم العربي، فإن ثمة مشكلة أكبر تتعلق بالفقر والمجاعة وسوء التغذية. إن التفاوت ( المفرط) بين المناطق التي تحظى بالأمن الغذائي والمناطق التي لا تحظى بالأمن الغذائي في المنطقة يمكن أن يوضح المجال المكاني لرأس المال. كما أنه يبين الطرق التي تعزز بها مشاريع الأمن الغذائي التبعية الغذائية. وإن الاعتماد المتزايد على الأغذية والمواد الزراعية المستوردة أمر له تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية؛ وبالتالي فإنه يضيف بُعدا آخرا إلى منظور استغلال العمالة الذي ناقشه غاردنز والقادري آنفاً.

إن "القوة المحركة" للتبعية الغذائية لها علاقة بالنخب الحضرية المالكة للأرض، والتي تتبع استراتيجيات السعي نحو الريع من أجل المحافظة على امتيازات احتكاراتها في المناطق الريفية. وإن التحالفات التي تُعقد مع وكالات التنمية، والمترسخة في إطار السوق، لا تؤدي إلا إلى تفاقم التفاوت في العمل وعدم الاستدامة في الغذاء. ويقدم زريق مثالاً على ذلك من تقرير بحثي أجراه برنامج الأمم المتحدة للإنماء ويحمل عنوان : تحديات التنمية في العالم العربي (التاريخ) ويُظهر التقرير أن نسبة الاكتفاء الذاتي من الجنوب ارتفعت إلى 60% في سائر المنطقة. وهو مشابه لإنتاج الألبان الذي ارتفع إلى 70% وإنتاج اللحوم الذي بلغ 80%. واستناداً إلى البحث الذي أجراه، يقول زريق إن هذه الأرقام تعتبر إشكالية للغاية، وتقدم صورة مشوهة عن الأنماط الفعلية وقوى الإنتاج في سائر أنحاء المنطقة. وحالة لبنان مثال على ذلك، حيث تعتبر الولايات المتحدة المصّدر الأكبر للمواد الزراعية. فمن خلال وكالة الأمم المتحدة للمساعدات تصدّر الولايات المتحدة إلى لبنان الذرة بشكل رئيسي، التي تُباع كغذاء لمزارع الدواجن المحلية. وعلى الرغم من العدد الكبير لمزارع الدواجن الموجودة في شتى أنحاء البلاد، فإن الحبوب، وليس اللحوم، هي الأكثر استهلاكاً في المجتمعات المحلية. إن مثل هذه الآراء والممارسات لا تفهم ولا تستغل الإمكانات الكاملة للأرض من المنظورين الاجتماعي – الثقافي والزراعي.

وبدلاً من ذلك، يؤيد زريق وجهة النظر المتعلقة بالفهم الأكثر تبصراً للأرض من حيث الصفات المادية. وهذا يعني الانتقال من نظام احادي البعد إلى نظام متعدد الأبعاد. وبعبارة آخرى، فإن الصناعات الزراعية الموجّهة إلى السوق، والتي تتسم بالثقافة الأحادية، تؤدي إلى إدامة دورة مناطق الأمن الغذائي إلى جانب المناطق التي لا تحظى بالأمن الغذائي، فضلاً عن أشكال التبعية الغذائية. وهنا يبدو مفهوم " المشهد الطبيعي" الذي يستخدمه زريق مفهوماُ منهجياً استُخدم لرسم التاريخ الثقافي للممارسات الزراعية في المنطقة. ومن خلال مثل هذا المنظر يمكن أن تحدث تحولات الأرض إلى مشهد طبيعي متنوع زراعياً، وأن يكون أكثر ملاءمة لأساليب الإنتاج والاستهلاك المحلية، الأمر الذي يفسح الطريق في النهاية إلى خلق حوافز تتماشى مع مبادىء السيادة الغذائية عل نحو أفضل.


 

فردريك بيلات، متخصص في الهندسة الزراعية Iddeales منظمة مجتمع مدني، صنعاء اليمن- الأنظمة الغذائية وصلات الموارد الطبيعية التي تواجه التحولات الاجتماعية الاقتصادية في اليمن.

يوضح بيلات أن 93% من المياه تستخدم- وتُهدر- في الإنتاج الزراعي، وتزداد هذه النسبة على الرغم من ازدياد الاحتياجات المحلية بسبب ازدياد معدلات النمو السكاني، الأمر الي يُحدث آثاراً مباشرة على إنتاج الغذاء في البلاد خاصة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الماء، شأنه شأن الأرض القابلة للفلاحة، تعتبر من الموارد النادرة في اليمن. وقد حدث تحول قي الإنتاج الزراعي في سائر أنحاء اليمن خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم. وحتى تلك الفترة، كان 82%

من المناطق الزراعية تعتمد على مياه الإمطار، كما تمت إدارة المياه من خلال زراعة المدرجات. وكانت تتم هناك زراعة الحبوب، من قبيل الذرة والشعير والقمح، فضلاً عن البقول. ومع دخول زراعة الفواكه والخضروات، ومع التوسع في زراعة القات كمحاصيل للبيع في بعض المناطق، فقد تغيّرت بقعة المناطق البعلية بصورة جذرية. ويحدث انجراف التربة بمعدل لا يقل عن 20% في المدرجات بشكل رئيسي. ويتفق بيلات مع زريق بأن الزراعة الأحادية والتبعية للسوق- وهما عنصران مترابطان- أحدثتا آثاراً مباشرة على ندرة المياه ورداءة الأنظمة الغذائية وسوء التغذية. وكما يشير بيلات، فإن المزارعين عندما يشترون المواد الغذائية من السوق، إنما يهدفون إلى تعويض النقص في إنتاج الحبوب، وخاصة القمح، وليس إلى تنويع سلة الغذاء بإضافة الخضروات والفواكه الطازجة، وذلك نظراً لمحدودية دخلهم وغياب مثل تلك المحاصيل في النمط التقليدي.

وتضمنت المداخلة دراستي حالة بهدف إلقاء الضوء على المشكلات التي تنشأ لدى تناول قضايا الأعتماد على السوق في المناطق الريفية. وتقع كلتا القريتين اللتين كانتا تعتمدان أصلاً على الزراعة البعلية، على بعد بضعة كيلومترات عن بعضهما بعضاً، ولكن كلاً منهما تتّبع نطاقاً زراعياً مختلفاً اليوم. فإحداهما تستخدم أساليب المحافظة على الزراعة المستدامة وتتقيد بالممارسات التقليدية، ولا سيما فيما يتعلق بإنتاج البذور والتنوع الزراعي-الحيوي. أما القرية الأخرى فإنها تستخدم الأساليب المكثفة للزراعة المروية وتنتج محاصيل لغايات نقلها إلى الأسواق المدنية. ويشير بيلات إلى أنه على الرغم من التنوع في الزراعة في القرية الأولى، فإن المزارعين المحليين مازلوا مضطرين لشراء كمية كبيرة من القمح من مصادر خارجية بسبب عدم كفاية الإنتاج. ومع إحلال انواع القمح غير المحلية ( من قبيل "كندا") محل الأنواع المحلية، وخاصة الذرة والشعير، فقد حدث تحول في العادات الغذائية كذلك. وكما يوضح بيلات، فإن المزارعين في القرية الثانية الأكثر غنى وعلى الرغم من بذل جهد وكبيرة لتكثيف الممارسات الزراعية ونُظم المياه منذ السبعينات من القرن المنصرم، مازلوا يشترون القمح الأجنبي من الأسواق المحلية بسبب توجه إنتاجهم نحو السوق، والذي يقوم أساساً على إنتاج البطاطا والخضروات. وقد عجزت الزراعة المكثفة والوصول إلى السوق عن حل مشكلة انعدام الأمن الغذائي وإقامة توازن للتنوع الغذائي. واليوم، فإن إحدى المشكلات العديدة التي يواجهها هؤلاء الناس تتمثل في المشكلات الصحية المتصلة بتلوث الماء من جراء المواد الكيميائية المستخدمة في الزراعة المكثفة.

 

 

الجلسة 3: العمالة وانعدام الأمن الغذائي

 

عبدالله العجمي، أستاذ كرسي في العلوم الاجتماعية، الجامعة العربية المفتوحة، الكويت- انعدام الأمن الغذائي والعمالة اليمنية في الخليج: حالة من الكويت

يتفحص العجمي ظروف عمل العمال المهاجرين القادمين من المناطق الريفية في حضرموت باليمن للعمل في الكويت. وقد بدأت الهجرة من حضرموت إلى الكويت في الأربعينيات من القرن المنصرم بحلول الطفرة النفطية. وحتى حرب الخليج الأولى في عام 1991، كان في الكويت ما لا يقل عن 100.000 عامل يمني. وكان العديد منهم متخصصين في الخدمات المنـزلية يعملون لدى العائلات الكويتية القديمة، وإن خبراتهم في العمل المنـزلي هي التي تحدد شكل علاقتهم بالكويتيين اليوم. وثمة حالياً نحو 20.000 عامل يعملون كمساعدين في المحلات التجارية، وكموظفين في القطاع الحكومي، كما يقوم بعضهم بأدوار خدمية في الشركات المملوكة للكويتيين. وقد ورثوا تلك الأدوار وليس الوظائف) عن أجدادهم، ذلك أن الكفيل الكويتي بمثابة نوع من الأب الاجتماعي، الذي يحتل " موقعاً مقرراً اجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً". وبهذه الطريقة، يحتل ابن العامل المهاجر مكان والده عندما يتقاعد. ويعتبر العجمي أن التبرعات الخيرية التي يعتمد عليها العامل المتقاعد شكلاً من أشكال الضمان الاجتماعي. بيد أنه على الرغم من ذلك، فإن الحوالات المالية التي تُرسل إلى اليمن غير منتظمة ومتفرقة. وعادةً ما تكون على شكل نقود او مواد غذائية وأدوية تُرسل و/أو تحمل مع المسافرين أثناء المناسبات الاحتفالية أو الزيارات. ومع ذلك، فإن أوضاع العمال محفوفة بالمخاطر بسبب عدم إنتظام وضع الزيارة- الغذاء، وهذا يعني أنهم يعتمدون كثيراً على النوايا الحسنة أرباب عملهم. وعلى الرغم من اختلاف أوضاعهم الاجتماعية مقارنةً بعمال مهاجرين آخرين، ممن قدموا من مناطق اخرى من العالم، فإن اليمنيين ما زلوا في وضع تبعي وضعيف.

إن اهتمام العجمي بالعمال المهاجرين القادمين من حضرموت إلى الكويت، منصبُّ على استكشاف طرق البحث الممكنة التي تساعد على تصميم وتنفيذ سياسات الأمن الغذائي في المنطقة، التي ستتصدى ايضاً إلى مثل تلك التباينات الاجتماعية الهائلة. وهذه هي الحال بشكل خاص إذا أخذنا بعين الاعتبار التباين الشديد في ظروف المعيشة بين الموظفين الكويتيين وعمالهم، بالإضافة إلى أقرباء عمالهم ( في اليمن). وفوق ذلك كله، أن اليمن بحلول عام 2010 كان أحد البلدان التي تعاني من أعلى معدلات انعدام الأمن الغذائي. كما يشير العجمي إلى أن العلاقة بين العمال اليمنيين ومستخدميهم علاقة معقدة بشكل خاص تتموضع في إطار الأفكار وروابط القرابة والعمل المترابطة بشكل خاص. ومن هنا فإن البحوث التحليلية النوعية تعتبر عنصراً أساسياً لفهم أثر تطبيق سياسات وتشريعات الدولة ( أو عدمه) على الحياة اليومية. وتستند مداخلته إلى بحثه لأطروحة الدكتورة وعمله الميداني، وينظر إلى ظروف العمل في سياق أوسع للتكوين الطبقي وممارسات العمل والنوع الاجتماعي التي تمتد من وإلى المجتمعين الكويتي واليمني.

 

 

سياسة الدولة والقطاع الزراعي: دراسات حول العراق ولبنان ومصر ( 25 يونيو/حزيران).

الجلسة 4: السياسة الاقتصادية والدولة والقطاع الزراعي

 

كامل مهدي، زميل زائر، مركز الشرق الأوسط، مدرسة لندن للاقتصاد- منظورات من العراق

يقدم مهدي تحليلاً تاريخياً للسياسات الزراعية ونظم حيازة الأرض في العراق. وفي الوقت الذي تتمتع فيه البلاد بتراث ريفي عميق وتنظيم اجتماعي تاريخي يتركز حول الأنشطة الزراعية المتنوعة، فإن علاقتها بالسوق العالمية كانت إشكالية بالنسبة للزراعة، وبشكل خاص منذ بدء الحقبة النفطية. ومن الواضح أن الحالة الراهنة للقطاع الزراعي في العراق تمثل " قصة إمكانات غير متحققة"، ولا يعود ذلك إلى تأثير النفط فحسب، وإنما إلى نظام ملكية الأرض المجحف الذي كان سائداً حتى الإصلاح الزراعي في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، وإلى السياسات التي فشلت في دعم الفلاحين وصغار المزارعين منذ ذلك الوقت، وإلى العودة إلى تركز حيازة الأرض والموارد الزراعية منذ مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم.

أما في الوقت الحاضر، فإن الفقر متفش بين سكان الريف العراقي، وثمة جيوب سوء تغذية خطيرة، ولا سيما في مناطق النـزاعات. وكثيراً ما يكون الفقر مرتبطاً بالعجز الغذائي الأوسع في البلاد، ولكن الفقر في الريف العراقي كان متفشيا حتى الخمسينيات من القرن الماضي في نفس الوقت الذي كان فيه العراق مصّدراً رئيسياً للمحاصيل الأساسية من الحبوب والتمور. وتدعي المقولات السائدة ان الإصلاح الزراعي في عام 1958 ومنذ ذلك الوقت كان هو السبب في انخفاض الإنتاج. وتشهد هذه الفكرة انبعاثاَ قوياً في ظل الهجمة النيوليبرالية الراهنة، مدعية أن نظاماً كان يشكل فيه سكان الريف أغلبية السكان ومنهم 75% من الأسر الفلاحية لم تكن تملك أرضاً على الإطلاق، وكان في حيازة 1% من ملاك الأرض ثلثي الأرض الزراعية بأكملها، كان يمكن أن يكون بشكل ما أكثر فعالية من نظام المزرعة الفلاحية الأكثر عدالة وإنصافا بكثير في الفترة التي أعقبت الإصلاح الزراعي مباشرة. وتشير البحوث إلى أن العكس هو الصحيح، وأنه على الرغم من الاختلال والإنتفاضات في مطلع فترة الإصلاح، فقد كان للإصلاح الزراعي تأثيرا إيجابيا عام على الإنتاج الزراعي.

فالواقع هو أن انخفاض الإنتاج في اعقاب إصلاحات عام 1958 مباشرة يعزى إلى سنوات الجفاف 1958-1961 بقدر ما يعود إلى الفوضى الإدارية والسياسية التي حدثت في تلك الفترة. وفي الحقيقة، على الرغم من ان المساحة المزروعة قد تقلصت بنسبة الثلث في الفترة 1959-1971، فإن الإنتاج بلغ أوجه في النصف الثاني من الستينيات. إذ تمكّنت فئة فلاحية متوسطة نشأت أو عززت موقعها نتيجة الإصلاح من الاستثمار في الأرض والآلات الزراعية، كما طوّرت قطاعاً خاصاً في مجال الخدمات الزراعية، قام بتأجير خدمات الآلات لبقية المزارعين. بيد أن هذا الانبعاث لم يعش طويلاً، وأرسى نظام حزب البعث الذي جاء إلى الحكم في المرة الثانية أسس المركزية وإتبع سياسة ضاغطة على السوق في خضم الطفرة النفطية للسبعينيات من القرن المنصرم. وبذلك فإن تدهور الزراعة الذي حدث حوالي منتصف السبعينات يمكن أن يعزى إلى سياسات التحيز للمدن والمركزية البيروقراطية وضعف الدعم والتهميش الاقتصادي لوحدات الزراعة الصغيرة. وبحلول عام 1977 بدأت العمالة غير الزراعية تسود حتى في المناطق الريفية. إذ أن 20% من العمالة الريفية عملت في قطاع الإنشاءات وحده، وتنامت نسبة عمالة الإناث في الزراعة بينما ظلت ملكية الأرض احتياطياً حكرا ذكورياً إلى حد كبير. ومع إنغماس البلاد في الحرب والتعبئة العسكرية الجماهيرية، فقد تعمقت أزمة الزراعة وترتب على ذلك وضع سياسة تفضل الحيازات الكبيرة للأرض والزراعة الرأسمالية المكثفة مع فرض إجراءات تقشفية وتدهور في قدرات الدولة التنظيمية. وإن ما أصاب الزراعة الفلاحية والمزارع الصغيرة من ضعف شكّل سبباً رئيسياً لمحدودية نجاح سياسة تفضيل الزراعة في ظل المرحلة المبكرة من العقوبات الدولية على العراق. وبعد ذلك كانت للسياسات التجارية المناؤة للزراعة التي تضمنها برنامج النفط مقابل الغذاء بموجب نظام عقوبات مجلس الأمن وثم بعد ذلك بشكل أكثر حدة تحت الاحتلال الأمريكي، إلى جانب تدني كفاءة وفاعلية مؤسسات الدولة وتنامي أزمة المياه، آثارا خطيرة على الزراعة والأمن الغذائي قادت به إلى الوضع الحالي المزري حيث يواجه العراق عجزاً في كل فئات المنتجات الزراعية- باستثناء التمور. وحتى فيما يتعلق بإنتاج التمور، فإن عدد أشجار النخيل انخفض من 32 مليون شجرة في عام 1960 إلى 10 مليون شجرة كأعلى تقدير في الوقت الراهن. وفي مجالات إنتاج الألبان واللحوم والدواجن والسكر والقطن، بالإضافة إلى الحبوب، فإن العراق يعتمد على الاستيراد اعتماداً كبيراً.

 

 

الجلسة 5: الضمانات القانونية للأرض، والتأجير، والعمل في القطاع الزراعي

 

إليزابيث صالح- مرشحة لنيل دكتوراة في قسم الأنثروبولوجيا، غولد سيمثز- الاستراتيجيات النيوليبرالية واحتكار ريع الأرض في البقاع

تبين إليزابيث صالح أنواع استراتيجيات الإستحواذ على الريع المستخدمة من قبل أصحاب المشاريع التجارية المدينيين في منطقة كفريا بالبقاع الغربي في لبنان، التي يقوم معظم سكانها المحليين بزراعة الكروم لإنتاج النبيذ على أراضيهم. وبدأت زراعة كروم العنب- ولا سيما صنف " كينسولت"- منذ عام 1949 على يدي " الارستقراطي الحضري" ميشيل دي بوستروس، المؤسس والرئيس الحالي لمعمل نبيذ " شاتو كفريا" على الأراضي التي ورثها عن والده. ويوجد اليوم ثلاث معامل للنبيذ تقع ضمن حدود البلدية، وهي " شاتو كفريا"، الذي تأسس في عام 1979، و " كيف كروم" في عام 1998، و" شاتو مارسياس" ( أُنشأ بعد إجراء العمل الميداني في عام 2009). وفي حين ان هذه معامل النبيذ تزرع العنب الخاص بها، فإنها تعتمد كذلك على العنب الذي تجلبه من قرية كفريا. وهذه هي الحال بالنسبة لمعامل النبيذ الأخرى الموجودة في منطقة وادي البقاع وما وراءه، مثل " شاتو كسارة". وقد تغيرت كميات العنب الي تأتي تقتنى من كفريا مع مرور السنين حيث أن معامل النبيذ المختلفة أخذت توقع عقوداً جديدة مع مالكي الأرض في مناطق أخرى من وادي البقاع. بيد أن كفريا لا تزال تشكل موقعاً مهماً لإنتاج النبيذ. وتقدم إليزابيث صالح حالة التحول التي حدثت خلال موسم القطاف لعام 1996 من قبل أكبر منتج للنبيذ وهو معمل " شاتو كسارة". فقد توقف المعمل عن إقتناء العنب من كفريا وتحّول إلى مناطق أخرى في وادي البقاع، حيث تزُرع أصناف أخرى من العنب غير " كنسولت". وتُرك منتجو الكرمة المحليون في كفريا مع فائض من إنتاج العنب، فقرر أحد السكان، وهو السيد بسام رحال، فتح معمل " كيف دي كفرايا" للنبيذ. ونشات توترات بين شاتو كفرايا ومعمل النبيذ الجديد، وفي عام 1998 أُرغم معمل " كيف دي كفرايا" على تغيير اسمه إلى " كيف كروم" نظراً لأن الأسم الأول كان علامة مسجلة مرخصة يملكها صاحب " شاتو كفريا".

وتتعقب المداخلة التحول التاريخي لكفريا إلى مشهد كروم لإنتاج النبيذ، وتضع هذه التحولات في إطار أشكال محددة من مشاريع الأعمال وأنواع احتكار الريع. وتتصل كل من أشكال المشاريع وأنواع الإحتكار " بالإقتصاد الحر" في لبنان، وبالإقتصاد السياسي العالمي للنبيذ. وترتبط فكرة الأعمال التجارية في إطار صناعة النبيذ بمفاهيم عن الأرض والمكان التي يُعبر عنها من خلال مفاهيم عن الأصول والإمكانات الفريدة لأرض معينة لإنتاج عنب النبيذ. ويستخدم الترويج لخواص معينة للموقع على إفتراض كونها الفرادة المميزة للمنتج مما يضفي "إحتكارا للموقع". وإن للنبيذ بهذا المعنى قدرة على إبراز العديد من الأبعاد الخاصة بهذه النوعيات ولكن الخصوصية والفرادة والأصالة لا تقتصر على النبيذ وحده بل تمتد أيضا إلى كرم العنب ومعمل النبيذ اللذان يصبحان من المواقع المهمة ذات الميزات الحصرية. وهنا يمكن استغلال أشكال أخرى من التجارة، من قبيل السياحة. ولذا فإن مواقع مثل كفريا تجذب المستثمرين الذين يسعون إلى كسب امتيازات الاحتكار. ومن ناحية أخرى سيسعى المستثمرون المتنافسون إلى تعظيم رأسمالهم من خلال تطوير " مواقع احتكار" أخرى ( داخل كفريا وخارجها)، وتصبح بالتالي جزءاً من المشاريع التوسعية النيوليبرالية، تعين الحدود بين الريفي والحضري.

 

ريموند بوش، أستاذ الدراسات الأفريقية والسياسية التنموية جامعة ليدز- منظورات من مصر

يتناول بوش مصير المزارع الصغيرة في مصر في سياق الاقتصاد السياسي الأوسع في البلاد. وقد نُظر تاريخياً إلى الإنتاج الزراعي الصغير على انه أكثر فعالية بكثير من الإنتاج الكبير. بيد أن القانون الذي سُن في عام 1992 والذي دخل حيز النفاذ في عام 1997، وتضمّن إلغاء الأشكال السابقة التي سمحت للمزارعين بنقل عقود الأرض المستأجرة إلى الجيل التالي، جاء لمصلحة البرلمانين من أصحاب الملكيات الكبيرة. ويوضح بوش كيف كانت عمليات تهجير المزارعين الصغار جزءاً من صراع طبقي اوسع. وإن عملية تجميع ونزع الملكية، واستمرار الممارسات العنيفة داخلها تستنسخ أنماط ما يحدث في مجالات اوسع.

وتركز الاستراتيجيات الزراعية المدعومة من قبل وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية والتي كانت قد طُبقت من قبل الدولة قبل الثورة تركيزاً تاماً على السيطرة على قيمة الأرض. ويقول بوش إن الأرض من زاوية تحليلية، ينبغي أن يُنظر إليها على أنها أكثر من مجرد سلعة لها سعر أو قيمة استعمالية. كما ينبغي النظر إليها كمنطقة وكنوع من السياسة الحيوية، والتي تصبح شكلاً من أشكال السلطة السياسية. وبذلك فإن تنظيم وضع الأرض بفعل الإصلاحات القانونية، من قبيل تلك التي أُدخلت في عام 1992 ودخلت حيز النفاذ في عام 1997، أدى إلى أو تهميش المزارعين المستأجرين الصغار ضمن هذه الأطر الزراعية الجديدة.

ومنذ 25 يناير/كانون الثاني 2011 وتصاعد الاحتجاجات في ميدان التحرير بالقاهرة، حدثت تعبئة قوية للمزارعين الصغار، حيث قدم اكثر من 1500 منهم من المناطق الريفية للاحتجاج في شوارع القاهرة. وقد بذلت وزارة الزراعة الحالية محاولات للتصدي للقضايا المذكورة آنفاً واعتُبرت عودة التعاونيات مما يمكن المحافظة على النمو الزراعي الطويل الأجل. وهذا أمر مثير للاهتمام إذا أخذنا بعين الاعتبار انه بُذل الكثير من الجهود تاريخياً من أجل القضاء على التعاونيات. أن عمليات إخلاء الأراضي وإنشاء مستوطنات ريفية معزولة تؤدي إلى تداعيات واسعو النطاق تتعلق بالصراع الطبقي وتشكيل الطبقات. ويخلص بوش نتيجة مفادها أن أية بحوث تُجرى في المستقبل بهدف المساعدة في صنع السياسات، يجب أن تتصدى لقضايا الديناميات الطبقية. والأهم من ذلك انها يجب أن تنظر كيف أن الفقر لا يتم خلقه ببساطة فحسب، وإنما يعاد إنتاجه.

 

 

المشاركون المدعوون

 

عبدالله العجمي، رئيس مساق، العلوم الاجتماعية، الجامعة العربية المفتوحة، الكويت،

ريموند بوش، أستاذ الدراسات الأفريقية والسياسية التنموي، جامعة ليدز.

إليزابيث فرانتز، مرشحة دكتوراه، قسم الأنثروبولوجيا، جامعة لندن للاقتصاد.

أندرو غاردنز، أستاذ مساعد في الأنثروبولوجيا، قسم علم الاجتماع المقارن، جامعة بوغيث صاوند، الولايات المتحدة الأمريكية.

علي القادري، زميل زائر، قسم التنمية الدولية، مدرسة لندن للاقتصاد.

كامل مهدي، باحث أقدم، مركز الشرق الأوسط، مدرسة لندن للاقتصاد.

دينا مكرم عبيد، مرشحة دكتوراه، قسم الأنثروبولوجيا، مدرسة لندن للاقتصاد ميشيل عبيد، باحثة، قسم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، جامعة مانشتسر. فردريك بيلات، متخصص في الهندسة الزراعية، الدياليز- منظمة مجتمع مدني، صنعاء، اليمن

إليزابيث صالح، مرشحة دكتوراه، قسم الأنثروبولوجيا، كلية غولد سميثز، جامعة لندن.

رامي زريق، أستاذ علم الزراعة والغذاء، كلية الزراعة، الجامعة الأمريكية في بيروت.

                              



إبحث
معرض الصور
آخر الامقالات
لقد حمّلنا ثلاثة مقالات قديمة حول اليمن و سوريا، م. مندي. اثنان منهما متاحان باللغة العربية والانكليزية. تجدون المقالات تحت فئة "التاريخ الزراعي"، و "حيازة الأرض"، و "المياه والري. "
هدف المؤتمر الدولي السابع للجغرافيا الراديكالية (ICCG 2015) هو توفير مكان جامع لمناقشة هذه وغيرها من الموضوعات التي تدرس الجغرافية النظرية الاجتماعية الأزمات والتطبيق العملي السياسي التدريجي. على الرغم من أهمية القضايا المطروحة، يأمل المنظمون خلق جو من المرح، والتوافق وأجواء ودية تجمع عددًا واسعًا من العلماء والناشطين والفنانين والمنظمين وغيرهم من المهتمين بالتطبيق العملي الاجتماعي والمكاني.
تقدّم ياسمين م. أحمد في مقالة هذه عدداً من القراءات التحليلية الأولية لتحرّك الفلاحين في مصر ضمن السياق الثوري، وتجاوب العديد من الخبراء القانونيين معه.
شارك
@

الفيديو الرئيسي
تحديثات الفايسبوك
تغريدات تويتر