تناقضات جديدة في الاقتصاد الزراعي في الهند غداة الإصلاحات الاقتصادية وتحرير التبادلات التجارية

اتضحت الى حد ما طبيعة التناقض الرئيسي في الاقتصاد الزراعي في الهند عقب استقلالها وتحررها من الحكم الاستعماري في العام 1947. تمثل التناقض الرئيسي آن ذاك بالتناقض بين عامة الفلاحين الزراعيين والعمال من جهة، والاقلية من ملاك الأرض والتجار والدائنين الذين احتكروا السيطرة على الأراضي والرساميل واستغلوا الفلاحين عن طريق الإيجار والفوائد وهوامش الارباح التجارية الباهظة من جهة آخرى. في الواقع كان هذا التناقض قائما من قبل، وكان جزءً من التناقض العام بين الشعب الهندي ككل وبين الامبريالية؛ لكنه سرعان ما برز إلى الواجهة خلال الفترة اللاحقة للاستقلال، وأصبح العنصر المُحدد لأجندة النضال الديمقراطي القائمة.

لم يعد التناقض الرئيسي على ما كان عليه سابقا، أي التناقض بين الشعب الهندي ككل وبين الامبريالية ووكلائها من حلفاء محليين. ففي حين لم تكن الامبريالية قد زالت بعد، بل كانت في حالة إنحسار في سياق حالة الفوضي التي سادت ما بعد الحرب التي عمت العالم المتقدم، اتاح الانعتاق من الاستعمار لبلدان العالم الثالث، مثل الهند، محاولة الانفصال عن التقسيم الدولي السابق للعمل الذي بحسبه كانت هذه الااقتصادات مفتوحة ومحررة بالكامل وموجهة لصالح نمو المركز لا للنمو الوطني. وباتت بعد الاستقلال قادرة على حماية اقتصادياتها وعلى قيام الدولة بالتدخل لصالح التنمية الوطنية، وساعدهم بذلك وجود المعسكر الاشتراكي. وفي الوقت الذي سكت فيه المحررون القدامى، لم يكن المحررون الجدد قد ظهروا بعد.

في الهند، كان الحل المعتمد في المجال الزراعي لمواجهة التناقض الرئيسي بين الملاك المحتكرين للرساميل من جهة وبين حشود الفلاحين من جهة أخرى، مرتبطا بصورة وثيقة بحل مجموعة من التنافضات الاقتصادية والاجتماعية الثانوية الهامة. استدعى هذا الحل حاجة العصر إلى كسر احتكار الأرض من خلال تدابير تتيح إعادة توزيع أراضي كبار الملاك على صغار الملاك وعلى الفلاحين المعدمين بصورة فعالة، وإلى كسر احتكار الإتمان والتسويق من خلال إنشاء مؤسسات التعاونية توجه القروض إلى المحتاجين إليها، وإلى اقامة مؤسسات تسويقية غير ربحية تعمل على تثبيت أسعار كلا من المنتج والمستهلك. كان من الضروري معالجة التناقض الرئيسي بجرأة من أجل حل التناقضات الهامة الأخرى ذات الصلة.

إن التناقضات الأخرى الهامة ذات الصلة والتي اعتمد حلها على طريقة التعاطي مع التناقض الرئيسي كثيرة. فهناك التناقض بين قلة الاستثمار المُنتج وبالتالي انخفاض مستوى القوى الإنتاجية في القطاع الزراعي من جهة -لا بسبب عدم كفاية الفائض الاقتصادي بل بسبب استخدامه لإغراض غير منتجة- وبين الحاجة الماسة إلى زيادة الإنتاج الإجمالي من الحبوب لإطعام الأعداد المتنامية لسكان الريف، وفي الوقت نفسه زيادة الجزء السلعي من الحبوب اللازم كسلع أجرية1 للنمو الصناعي من جهة أخرى. وهناك التناقض بين الفقر المدقع وتدني معايير الحياة المادية في القرى من جهة، وبين الحاجة إلى توسيع سوق الجملة الداخلي لجعل التوسع الصناعي والتنمية الشاملة مكتفية ذاتيًا من جهة أخرى، الأمر الذي كان ممكنًا فقط من خلال اجراءات زيادة القوى الشرائية للجماهير. أضف إلى ذلك التناقض بين استمرار القمع القائم على الهرمية الاجتماعية والطبقية والنوع الاجتماعي وغيرها من اشكال القمع الفاقعة في المناطق الريفية من جهة، وبين الاساس الدستوري للنظام السياسي الهندي الذي ينص على المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والفرص بغض النظر عن موقعهم في الهرمية الاجتماعية والطبقة الاجتماعية والنوع الإجتماعي. في اللحظة التي يتم توضيح هذه التناقضات، سنتبيّن الروابط المتعددة بين التناقض الرئيسي والتناقضات الأخرى، وبين المسألة الزراعية وبين المسار التنموي المنعتق من الضغوط الامبريالية.

مع ذلك قلل الاقتصاديون والمخططون في الهند بإستمرار من الدور الفعال للإصلاحات القاضية بإعادة توزيع الأراضي في زعزعة السلطة الاقتصادية والاجتماعية للأقلية الريفية المالكة للأرض مما يؤدي إلى توسيع القاعدة الاجتماعية للاستثمار في الريف. وقلّلوا من أهميتها في وضع الشروط المسبقة لإجراءات الحد من الفقر ولتوفير سوق موسعة للصناعة، وفي الحد من الأشكال القديمة للامساواة القائمة على الطبقة والهرمية الاجتماعية والنوع الاجتماعي، والتي تتجلى بارتفاع معدلات الأمية وانخفاض النسب بين الجنسين وارتكاب الفظائع بحق فئة المنبوذين فضلًا عن استمرار عمالة الأطفال. وقد جرى تطبيق بعض الإصلاحات في الولايات التي كان للحركة اليسارية نفوذا فيها، الأمر الذي كان له أثرا إيجابيا على الرغم من طبيعة الإصلاحات المحدودة نسبيًا.

كانت إنجازات خطط التنمية خلال الأربعين عامًا وحتى عام 1990 كبيرة في العديد من النواحي، إلا إنها ترافقت ايضا مع إخفاقات مخيّبة. تكمن هذه الإخفقات في عدم القدرة على الحد من معدلات الفقر العام بشكل فعال، وبالتالي إلى صعف نمو السوق الداخلي وإلى تنامي الضغط للبحث عن مصادر خارجية للنمو بالتعاون مع الرساميل الأجنبية. أدت التطورات الدولية بعد سبعينات القرن الماضي إلى إعادة بروز هيمنة الرساميل التمويلية في العالم المتقدم إبتداءً من منتصف السبعينيات، وإلى وحدة سياسية نسبية حققتها القواعد الوطنية لهذه الرساميل التمويلية (عن طريق إخضاع التنافس الامبريالي الداخلي لغرض تحقيق أهداف مشتركة تجاه العالم الثالث)، فضلًا عن الاستخدام المدمر للرساميل التمويلية لمؤسسات بريتون وودز لتنفيذ مراميها، وانهيار الاتحاد السوفييتي، خلقت هذه التطورات جميعها ظروفا مؤاتية للإمبريالية، التي سعت إلى إعادة استعمار العالم الثالث اقتصاديأ ونجحت إلى حد كبير في العديد من البلدان الصغيرة.

ظهر "المحرّرون" الجدد في ساحات أميركا اللاتينية وإفريقيا في أواخر ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، في حين بدئ هجومهم في الهند بعد ذلك بقليل، أي في بداية تسعينيات القرن الماضي. اتسمت الإمبريالية القديمة بالشفافية نظرًا لسيطرتها السياسية المباشرة، ولكن الامبريالية الجديدة أقل شفافية مما يجعلها أكثر خطورة من عدة نواحي. وتختلف عملية التحرر الجديدة عن التحرر القديم من الاستعمار من ناحيتين على الأقل: استراتيجيتها التي تقوم على تعزيز المكانة الاقتصادية للأثرياء على حساب المواطنين الآخرين مما أدى إلى إفساد النخب ماديا في بلدان الجنوب العالمي؛ وتوجهاتها الإيديولوجية من حيث النظريات الخاطئة التي افسدت فكرياُ الشخصيات العامة والمفكرين ممن كانوا داعمين للنمو المستقل سابقاً، لكنهم حالياً يردّدون كالببغاء شعارات التحرر التي حفظوها عن مرشديهم من البلدان المتقدمة.

هناك جوانب إيجابية للنظام السياسي الذي عمل به نهرو في الهند خلال العقود الأربعة ما بين 1950 و1990، والتي بتنا نقدرها اليوم أكثر من قبل، بعد أن تجلت الطبيعة الجائرة لسياسات الإصلاح الإقتصادي اللاحقة. قبل الاستقلال في عام 1947، سيطرت بريطانيا بقبضة من حديد على الموارد المالية الداخلية وعلى الإيرادات الخارجية. فخلال الفترة الأفضل من قرنين من الزمن، استحوذت بريطانيا كليا على عائدات الذهب والعملات الأجنبية المتأتية من فائض صادرات الهند من السلع إلى العالم. لم يُدفع للمنتجين والفلاحين فعليا إذ كان يتم تعويضهم عن سلعهم المصدرة من ضرائبهم التي كانت تساهم في ايرادات الخزينة. تعني هذه الخديعة المالية ان فائض الميزانيات كان يتم تشغيله مما وضع ضغطا شديدا على الدخل العام أدى الى تنامي معدلات الفقر. وتجلى ذلك بالتراجع الحاد في استهلاك الحبوب للفرد الواحد في الهند البريطانية من نحو 200 كلغ (وهو المعدل الوسطي لفترة الخمس سنوات بين 1909 و1914) إلى 159 كلغ (وهو المعدل الوسطي للفترة الممتدة بين 1933 و1938) وصولًا إلى حد أدنى بحلول العام 1946 هو 137 كلغ. في ولاية البنغال الريفية وحدها، قضى ثلاثة مليون مدني من اليد العاملة والعمال الحرفيين والفلاحين الفقراء جوعًا، عندما تم تحميل التكلفة الباهظة لتمويل إنفاق الحلفاء الحربي في جنوب أسيا على ميزانية الهند (مقابل وعد بالسداد فقط في المستقبل البعيد). وقد جرى جمع هذه الأموال من خلال افتعال حالة من التضخم الربحي السريع.

عند الاستقلال تُركت البلاد في ضائقة شديدة، ولكن بأمل كبير اذ تم التخلص من العبء المرهق المتمثل بإلاستغلال الاستعماري إلى غير رجعة. وبدأت الحكومة بالإنفاق على تنمية البنى التحتية الريفية، وخاصة نظم الري على نطاق واسع نسبيًا، كما قامت بتمويل مؤسسات بحثية بهدف تطوير أصناف جديدة من المحاصيل. وأعطت الأولوية لإعادة إحياء إنتاج الحبوب الأساسية واستهلاكها، واتخذت تدابير لحماية المستهلكين والمنتجين على حد سواء من تقلبات الأسعار الجامحة التي تتصف بها الأسواق العالمية المتقلبة. ولم يسمح بتصدير الحبوب الغذائية حتى لو كان السعر العالمي مرتفعًا طالما لم يتم الوفاء بالحاجات المحلية أولًا، كما لم يسمح باستيراد الحبوب في حال كان السعر العالمي منخفضًا بشكل غير طبيعي نظرًا لأن ذلك سيقوض مداخيل المزارعين. تأسست مؤسسة الأغذية الهندية في العام 1965، وتعهدت بشراء الحبوب دون حدود من المزارعين بسعر الحد الأدنى من الدعم يغطي كلفة الإنتاج ويوفر بعض الدخل للمزارعين. واحتفظت بمخزون من الحبوب الغذائية مضيفة إليه في سنوات الحصاد الجيد والسحب منه في سنوات الإنتاج الضعيف. أدى هذا النظام إلى تعادل تقلبات الأسعار، وكان عملا متوازنا لحماية المستهلك والمنتج على حد سواء.

لاقى نظام المشتريات العامة للحبوب الغذائية والحفاظ على المخزونات وتوزيع الحبوب على المستهلكين دعما من الثورة الخضراء وارتفع معدل نمو الإنتاج بمقدار ثلاثين ضعفا مقارنة بالفترة الاستعمارية. وبحلول نهاية ثمانينيات القرن الماضي، كانت هذه الوكالة الحكومية تتعامل مع نحو 45% من الإنتاج الإجمالي للحبوب المتداولة في السوق. وتحسن حصة الفرد من الحبوب الغذائية لتبلغ 184 كلغ بحلول بداية تسعينيات القرن الماضي. كما جرى توسيع نطاق إجراءات تثبيت الأسعار لتشمل المنتجين والمصدرين من مزارعي القطن والشاي والقهوة والتوابل، وذلك من خلال إنشاء ما عُرف بمجالس السلع التي قامت بدورها بشراء ما بين ربع الإنتاج بأقل أسعار دعم. لطالما شكل االحصول على القروض مشكلة بالنسبة إلى فئة الفلاحين الذين تعرضوا لمعدلات فائدة مجحفة من دائني القطاع الخاص. بعد تأميم المصارف في العام 1969، تم تعريف صغار المنتجين، بما في ذلك العامليم في حقل الزراعة والصناعات التحويلية الصغيرة، كـ "قطاع يحظى بالأولوية" بالنسبة للإقراض المصرفي وتم تقديم إتمان لهذا القطاع بسعر فائدة أدنى. وتحسن نطاق انتشار الشبكة المصرفية في المناطق الريفية.

 

إبطال السياسات في بداية تسعينيات القرن الماضي

إتخذت المؤسسات المالية الدولية النقص المؤقت في النقد الأجنبي في الهند خلال حرب الخليج الأولى في عام 1991 مبررا لاعتبار الهند بلد يواجه أزمة مالية حادة، الأمر الذي كان بعيدًا كل البعد عن الحقيقة. وفي حين أن قرضًا صغيرًا كان كفيلًا بإسعاف الهند، إلا أنها اقترضت مبلغ 5 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي. فمن دون أي إنذار مسبق أو تشاور مع البرلمان، سارع وزير المالية في حكومة الأقلية المنتخبة في منتصف عام 1991 بإلغاء جميع السياسات المطبقة سابقًا واستبدالها بمجموعة من إجراءات التكيف الهيكلي المالوفة التي ينصح بها صندوق النقد الدولي. وجرى خفض الإنفاق العام بصورة حادة (إلى الحد الذي انخفض فيه نصيب الفرد من الدخل العام في عام 1992) وفقدت الروبية 30% من قيمتها. وبعد عامين، تم إتخاذ إجراءات التحرير المالي التي استبعدت الفلاحين وغيرهم من صغار المنتجين من الإتمان المصرفي المنخفض الكلفة.

استمر تخفيض الإنفاق العام لا سيما على التنمية الريفية والقطاعات الاجتماعية كجزء من العقيدة الاقتصادية الجديدة حتى بعد سداد قرض صندوق النقد الدولي. منذ عام 1995، أي بعد تشكيل منظمة التجارة العالمية، تعرضت الهند لضغوطات هائلة من جانب البلدان المتقدمة لرفع القيود التي تفرضها الهند على التجارة وتخفيض التعريفات في وقت ابكر بكثير وبسرعة أكبر مما ينص عليه الاتفاق الزراعي التي وقعت الهند عليه. نتجية لهذا، أصبح المزارعون وصغار المنتجين عرضة لتقلب الأسعار العالمية الحاد للمرة الأولى منذ أربعة عقود. وفي الوقت نفسه، ألغيت الوظيفة الشرائية لمجالس السلع المختلفة، وتم إلغاء حماية الحد الأدنى لإسعار الدعم للمحاصيل الهامة المعدّة للتصدير.

على صعيد الأمن الغذائي، استهدف نظام التوزيع فئات بعينها، فبدلا من ان تكون البطاقات التموينية التي تؤهل صاحبها الحصول على الحبوب بأسعار مدعومة لكل شخص يطلب الحصول عليها، اصبحت حكرًا على من تصنفهم الحكومة "دون خط الفقر". ونظرًا لأن خط الفقر الرسمي كان منخفضًا بشكل غير واقعي، تم استبعاد أكثرية الفقراء فعليًا، وبالتالي تراجعت مبيعات محال الحصص الغذائية بشكل حاد. تهلهل نظام المشتريات العامة بسبب شراء الوكالات الحكومية كميات كبيرة من الحبوب وتراكم المخزون. وتم تجاهل السبب الرئيسي وراء تكدس المخزونات، وهو الإنقضاض على مداخيل الناس من خلال خفض الإنفاق العام فضلًا عن استبعاد الفقراء فعليًا من الحصول على الغذاء بأسعار معقولة. إذ لم يكن السبب زيادة العرض، بل نقص الطلب عامة نتيجة سياسة الدولة في ظل النيوليبرالية.

كان للتقشف النيوليبرالي والتجارة الحرة آثارأ قاسية على الهند، كغيرها من البلدان النامية. لكن ربما كانت الآثار أكثر حدة في الهند عنها في البلدان الأخرى بسبب الطبيعة المتطرفة والرعناء للتدابير المعتمدة. وأحد المؤشرات على ذلك هو الإنخفاض الحاد لمعدل استهلاك الفرد للحبوب تمامًا كما حصل خلال الحقبة الاستعمارية، مما يعني إن المكتاسبات التي تحققت خلال السنوات الأربعين من سياسة نهرو قد تم ابطالها. تشير أحدث البيانات الصادرة على ان حصة الفرد من الحبوب الغذائية تراجعت الى المعدلات التي كانت قائمة في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، أي أقل من 160 كلغم للفرد للاستهلاك المباشر. ونظرًا لأن الحبوب الغذائية توفر الحصة الأكبر من الحاجات الغذائية للمواطن الهندي العادي، تظهر بيانات المسح الوطني لعينة تراجعا ملحوظا، وإن كان طفيفا، في استهلاك الفرد للطاقة المقاس بالسعرات الحرارية في اليوم الواحد وفي إستهلاك البروتين للفرد مقارنة مع بيانات بدايات تسعينيات القرن الماضي. بالتالي، شهدت نسبة الفقراء، التي تم قياسها بشكل دقيق بتطبيق المقياس الرسمي للتغذية لمعرفة خطوط الفقر الواقعية، ارتفاعًا ملحوظًا خلال عقدين من الزمن، مقارنة بين بيانات عامي 94-1993 والبيانات الأحدث لعامي 2011-12.

تسبب إلغاء الدعم عن الأسعار والتعرض للتقلبات الأسعار العالمية الحادة واستثناء الفقراء من القروض المنخفضة الكلفة بنشوء أزمة مديونية حادة في أوساط الفلاحين في أواخر تسعينيات القرن الماضي. وتتواصل الأزمة مسببة بنحو 15 إلى 16 ألف حالة إنتحار بين المزارعين الغارقين في الديون كل عام ليربو عددهم الإجمالي عن أكثر من 300,000 منذ العام 1997. لا يشهد أي بلد آخر في العالم مثل هذه النتائج الخطرة لتطبيق السياسات النيوليبرالية المضللة. تتجلى قسوة النخب الحاكمة المطلقة في استمرارها بتعزيز التجارة الحرة ورفضها تطبيق تدابير فعالة لدعم الأسعار. بدلا من ذلك، يستمع هؤلاء إلى البنك الدولي الذي ينادي بالتحويلات النقدية للمزارعين في البلدان النامية، على غرار النموذج المعمول به في البلدان المتقدمة، متجاهلين تمامًا مطالب المزارعين المتكررة بدعم الأسعار. سأناقش لاحقا أسباب اعتبار التحويلات النقدية إجراء غير عملي في البلدان النامية الفقيرة وعن كونها تخدم مصالح البلدان المتقدمة عند تناول الدعم الزراعي الهائل في بلدان الشمال.

تُظهر البيانات المتعلقة بملكية الأراضي في الهند إن عملية تمركز الملكية مستمرة منذ عام 1993 مقارنة بعام 2013، بحيث يحصل الأثرياء الذين يشكلون 5% من السكان على الأراضي على حساب الفئات الأخرى. يملك الفلاحون الفقراء مساحات صغيرة من الارض التي لا يمكن اعتبارها جديرة بالإتمان. فالفلاحون من ذوي الملكيات الوسطى، بل حتى الفلاحين الأثرياء، هم من يفقدون أراضيهم نظرا لتراجع هامش الربح في القطاع الزراعي بسبب السياسات النيوليبرالية. أن فئة الـ 5% الذين تمكنوا من شراء اراضي الفئات الآخرى هم الأثرياء الذي لا يقتصر دخلهم على الزراعة فقط، إذ عمدوا إلى تنويع أنشطتهم لتطال شراء العقارات الحضرية والشركات بمختلف انواعها. فباتوا بالتالي قادرين على تحمل تقلبات الأسعار بطريقة يعجز عنها المنتجون الذين يعتمدون على الزراعة بشكل أساسي.

بصرف لنظر عن عمليات نقل الأراضي بين الملاك أنفسهم، عمدت حكومات الولايات المحلية في الهند بصورة ممنهجة إلى تسهيل عمليات استحواذ الشركات على الأراضي الزراعية المخصصة للمحاصيل مقابل تعويض ضئيل، وإلى إنشاء المناطق الاقتصادية الخاصة. في المقابل، برزت مقاومة المزارعين لعملية الاستحواذ على الأراضي إلى حد كبير في السنوات الأخيرة. لكن بسبب ضعف التنظيم والمقاومة، تتواصل عملية تغريب اراضي المزارعين من خلال الوعود بإعادة التأهيل والتعويض؛ الأمر الذي لا يحدث دومًا. وبسبب عملية التغريب هذه، أستمر عدد المزارعين في التراجع، ولا يجد من يفقد أرضه فرصة عمل في القطاعات الاقتصادية الأخرى لبطء توسع قطاعات الإنتاج وتزايد الطلب المحلي، في ظل سياسات مالية متشددة. في حين يشهد القطاع الثالث، اي قطاع الخدمات المتسم بتدني الإنتاجية والأجور، طفرة ملحوظة.

نتيجة لهذه التطورات، يزداد التناقض بين الشعب الهندي وبين الامبريالية الجديدة حدة. ففي المجال الزراعي، بات التناقض الجديد الناشئ الآن يتمثل بالتناقض بين جميع طبقات الفلاحين في المناطق الريفية من جهة، وبين الامبريالية وداعميها المحلين من كبار ملاك الأرض من جهة أخرى. والملاحظ ان التناقضات السابقة تُعبر عن نفسها بأشكال جديدة وأكثر حدة في سياق الامبريالية الجديدة وهجماتها على الاقتصاد.

إذا ما قامت الشركات العابرة للحدود باشراك النخب الصغيرة من الملاك في إستراتجيتها، كما يبدو أنّه يحدث الآن، فإن الكفاح ضد الامبريالية لن يعد منفصلا عن النضال من أجل الأراض، بل يبدأن بالتقارب. على سبيل المثال، تسعى هذه الشركات والشركات الرأسمالية المحلية المشاركة في الأعمال الزراعية الجديدة إلغاء التشريعات المتعلقة بسقوف ملكية الارض حتى يتسنى لمؤسسساتها التوسّع على حساب معيشة عامة المزارعين. وهنا تحديدًا، تتلاقى مصالحها مع مصالح كبار الملاك. إذ تنخرط هذه المجموعات جميعها بصورة صارخة في الاستيلاء على الأراضي وتخصيص موارد الملكية العامة. ولقد منحت ولايات عدة في الهند إعفاءات من القيود الحالية على تحويل الأراضي الزراعية إلى استخدامات غير زراعية.

يبقى السؤال المطروح على المستوى الوطني اذا ما كان هناك مقاومة للامبريالية كافية للحصول على درجة ما من الاستقلال لمتابعة أهداف التنمية الوطنية، او اذا ما كان نضال الكثيرين الطويل من اجل الإستقلال والتضحيات بحياتهم في سبيله سينتهي بان تصبح الهند بلدا مجبرا على المعاناة من منظومة الإجراءات التقشفية العقابية المؤدية إلى تراجع الدخل الفعلي وارتفاع معدلات البطالة وفقدان مصادرها الوطنية واكتفائها الذاتي الغذائي؛ كل هذا لصالح الرساميل الدولية المتمركزة في البلدان المتقدمة. فالسؤال هو: الاستقلال أم التبعية المالية تحت استعمار جديد.


قصّة القطن: تحرير التبادلات التجارية وحالات إنتحار المزارعين

وفقا لسياسة التجارة الحرة الجديدة الموضحة سابقًا، كان المحصول الأسرع نموًا في الهند هو القطن الخام. شهد تصدير القطن طفرة قوية، إذ قفزت الصادرات من معدل وسطي هو 35,000 وحدة خلال السنوات الأربع ما قبل سنة 1990-1991 إلى أكثر من ذلك بعشرة أمثال، أي 374,000 وحدة، في تلك السنة، وحافظت على معدل هو 200,000 وحدة خلال السنوات الثلاث التالية. ونظرًا إلى الارتفاع غير المنتظم، واجهت الهند ندرة القطن الخام للأغراض المحلية تسببت في ارتفاع أسعار الغزل إلى ثلاثة أمثال في السوق المفتوحة، وتوقفت أعداد كبيرة من معامل الغزل الألية عن العمل. ولحقت أضرار كبيرة جدا بعشرات الآلاف من حائكي النول اليدويين الذين يعتمدون على الغزل المنسوج آليا، فوقعت حالات إنتحار بين هؤلاء الحائكين بسبب الديون قبل وقت طويل من وقوعها بين المزارعين. وعلى الرغم من تراجع أسعار القطن عالميًا بدأً من نهاية العام 1995، أعطت وزارة التجارة الضوء الأخضر لزيادة الصادرات في العام 1997 تقريبًا، مما أدى إلى إغلاق عدد أكبر من معامل الغزل الآلية. فانخفضت القدرة التنافسية لقطاع النسيج لفائدة المنافسين الأجانب.

هل استفاد مزارعي القطن من ازدهار تصدير القطن الخام؟ إن غالبية مزارعي القطن هم من صغار المزارعين، كما ان الاراضي التي يقومون بزراعتها مستاجرة كلها او جزء منها. يتحمل المزارع كليا مخاطر إنتاج محصول تجاري، ويزداد هذا الخطر بشكل كبير عندما يزرع المحصول التجاري بموجب عقد تصدير وفقا لنوعية البذور والأسمدة ومبيدات الحشرات التي يفرضها البائع. وعلى أمل تحسين وضعهم الاقتصادي خلال فترة ارتفاع الأسعار العالمية حتى العام 1995، عمد مئات الآلاف من صغار مزارعي القطن إلى توسيع المساحة المخصصة لزراعة القطن، وأخذوا سلفًا نقدية ضخمة من التجار والوكلاء فضلًا عن الاقتراض من المصارف من أجل تغطية التكاليف الإضافية ولشراء البذور والمدخلات الزراعية. وفرت طفرة توسع المساحات المخصصة لزراعة القطن الفرصة لكل من وكلاء بيع البذور غير المجازة وتجار المبيدات المزوّرة للبيع دون أي رقابة من الدولة حيث تركت جميع الأمور "لفعالية" السوق المزعومة.

إنّ محصول القطن عرضة لأنواع عديدة من الآفات، وكان للثالوث غير المقدس من الوكلاء التجاريين/الدائنين وتجار المبيدات وبائعي البذور دورا في هذه النكبة. إذ قام المزارعون بشراء البذور غير المجازة، وأنفقوا مبالغ طائلة للحصول على مبيدات غير مستوفية المعايير لرش محاصيلهم المصابة بالآفات، فلم يتمكنوا من إنقاذ إلا القليل منها. فلو قاموا بزراعة حبوب الدخن المعهودة المقاومة للجفاف والآفات بدلا من القطن لأمكنهم أن يحصلوا على قوتهم على الأقل، فإبعتمادهم على القطن، لم يحصلوا قوتًا كافيًا ولم يعودوا قادرين على تصفية ديونهم في الأفق المنظور. دفع اليأس مئات المزارعين على إنهاء حياتهم تاركين أسرهم في مواجهة العالم النيوليبرالي الغاشم. وبيت القصيد هو أن مزارعي الحيازات الصغيرة والمتوسطة معرضون بشكل كبير للمخاطر، والمحاصيل التجارية المستهلكة محليًا عرضة ايضا للمخاطر، وهذه المخاطر أكبر بكثير في حالة المحاصيل المعدة للتصدير. لا يملك المزارع حيلة حيال التقلبات العالمية لأسعار المحاصيل المعدة للتصدير، خاصة ان هيئات المشتريات والتسويق توقفت كجزء من السياسات النيوليبرالية. بمجرد أن يقترض المزارع لزراعة محصول تجاري نقدي يتطلب نفقات نقدية عالية، كما في حال زراعة القطن، حتى لو لم يكون مفلسًا بالكامل وميتًا، لا يعود لديه الخيار بزراعة الارض في الموسم التالي بمحصول غذائي بدلًا من القطن. فلا بد من سداد القروض المتأخرة، ولسدادها عليه أن يجازف مرة آخرى بزراعة محاصيل ذات قيمة أعلى. فالدين يجعلة مرتهنًا للمحصول الجديد حتى لو لم يكن قد أبرم عقدًا رسميًا لإمداد وكلاء المصدرين. ونادرًا ما يكون التراجع عن زراعة المحاصيل النقدية ممكنا.

 

انخراط الشركات الزراعية التجارية العابرة للحدود في قطاع القطن

استغلت مونسانتو الشركة الاميركية العملاقة العابرة للحدود محنة مزراعي القطن في الهند بشكل سريع لإدخال نوع القطن الخاص بها المهندس جينيًا إلى السوق الهندي، وهو الصنف BT-Cotton Bacillus Thuringiensis الذي يحتوي نوعًا من البكتيريا التي تنتج بشكل طبيعي سمومًا تقضي على بعض أنواع آفات القطن وغيره من المحاصيل. جرى إدخال جينات هذا النوع من القطن في نبتة القطن بهدف إنتاج نبتة قطن مهندسة جينيًا واسمها BT-cotton والتي تمتلك شركة مونسانتو براءة اختراعها. تزعم الشركة أنه نظرًا لكون كل قسم من أقسام نبتة القطن سام للآفات، فإن هذه الآفات ستموت ما أن "تقضم" النبتة. وأبلغت الشركة الفلاحين الهنود بأن الآفات ستختفي ما أن يشتروا بذور نبتة BT-cotton منها (بكلفة عالية).

في الواقع، تبيّن أن نبتة مونسانتو سامة ليس فقط للآفات بل للحشرات النافعة والضرورية. علاوة على ذلك، ونظرًا لعدم إمكانية إعادة زرع بذور نبتة BT-cotton، يتعين على المزارع شراء هذه البذور الباهضة الثمن من شركة مونسانتو كل عام، مما يؤدي إلى شكل جديد من العبودية، هي عبودية التكنولوجيا المتقدّمة. كما هو معروف، فان الآفات الحشرية قصيرة العمر تتحول بشكل سريع في غضون أجيال قليلة وتصبح مقاومة للسم في نبتة BT-cotton خلال سنتين إلى ثلاث سنوات، وتزدهر عندما "تقضم" النبتة فيما يشبه إلى حد كبير تطوّر أنواع البرغش المقاوم للمبيدات التي أدت إلى عودة الملاريا. واليوم، تواجه شركة مونسانتو ملاحقات قضائية عدة من قبل مجموعات من المزارعين الأميركيين الذين وجدوا أن الآفات قد هاجمت محصولهم من BT-cotton الباهظ الثمن وتكبدوا الخسائر جراء ذلك.2 بالطبع، لم يمنع هذا الأمر الشركة العابرة للحدود من خنق محاولتهم باللجوء إلى ادعاءات زائفة.

تعتبر الهند أكبر منتج للقطن الخام في العالم، لقد جرى حتى اليوم تحويل أكثر من 80% من الأراضي المزروعة بالقطن إلى أراض مخصصة لزراعة البذور المعدّلة جينيًا. لا تُظهر الدراسات المتعلّقة بمداخيل منتجي القطن انخفاضا بل تنامي التفاوت بين المداخيل. وتتواصل حالات انتحار المزارعين بسبب الديون لتبلغ ما بين خمس عشرة ألف إلى ستة عشرة ألف حالة انتحار كل سنة.
 

دعم الزراعة في البلدان المتقدّمة

عند تناول موضوع العولمة والتوجه نحو الصادرات، لا بدّ لأي تحليل شبه كفوء من أن يقيّم أنواع الدعم المختلفة التي ينعم بها المزارعون في الشمال العالمي. تطلب هذه البلدان من البلدان النامية خفض مستوى دعمهم كونه يؤدي إلى "تشويه" التجارة. وفقًا لهذا المنطق، لا تبدي هذه البلدان اي انزعاج من "التشوية" الاعلى 80 مرة، كون مستوى الدعم المقدم من حكوماتها للمزارعين أعلى بثمانين مرة من الدعم الذي تقدمه البلدان النامية.

ان دعم القطن في الولايات المتحدة الأميركية امر فاضح، اذ بلغ متوسطه السنوي أكثر من 110,000 دولارا للمزارع الواحد خلال الـ 12 عامًا المنتهية عام 2012. إن إخضاع مزارعي البلدان النامية للمنافسة في مجال الواردات الزراعية امر سخيف للغاية بالنظر الى حجم الدعم الذي يتمتع به المزارعون الأجانب. ففي العام الذي تلى المصادقة على الاتفاقية الزراعية وتشكيل منظمة التجارة العالمية، دفعت البلدان المتقدّمة التي انضمت إلى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إعانات زراعية وصلت إلى 336 مليار دولار أميركي في العام 1995 (ما يفوق إجمالي الناتج القومي الهندي كاملًا) وذلك لصالح أقل من 20 مليون مزارعا. ودفعت الولايات المتحدة الأميركية منفردة 75 مليار دولار أميركي من ميزانيتها السنوية إلى مزارعيها المتفرغين وعددهم 2.7 مليون مزارع، اي ان متوسط الدعم السنوي للمزارع هو 2800 دولار، وهذا الدعم وحده يشكل سبعين ضعف دخل الفلاح الهندي العادي.

بحلول عام 2018، انخفض عدد المزارعين ومربي الماشية في الولايات المتحدة الأميركية إلى أقل من مليونين، وقُدّر مستوى الدعم بموجب قانون المزارع في عام 2018 في العالم التالي بتسعين مليار دولار أميركي، أي ما لا يقلّ عن 45 ألف دولار أميركي للمزارع الواحد. غير أن ثلاثة أرباع الدعم تذهب مباشرة إلى عُشر العدد الإجمالي فقط، فالعدد يضم أيضا المنشآت الزراعية الكبرى.

بلغ إجمالي الدعم للزراعة في الولايات المتحدة الأميركية ما يزيد قليلا عن 1% من ميزانيتها في عام 2018، بينما كان الإنفاق من الميزانية 37% من الناتج المحلي الإجمالي، أي إن أقل من نصف 1% من الناتج المحلي الإجمالي كان كافيًا لتوفير الدعم الهائل للمزارعين. يمكن للبلدان الصناعية المتقدّمة أن تتحمل بسهولة عبء التحويلات النقدية، نظرا لكبر حجم الميزانية وقلة عدد المزراعين مما يجعل الكلفة الإدارية للتحويلات النقدية منخفضة.

يختلف الوضع بشكل كبير في البلدان النامية حيث يعتمد عدد كبير من السكان على الزراعة بطبيعة الحال. في الهند مثلا هناك 132 مليون أسرة تقوم بزراعة ارض تقل مساحتها عن الهكتارين، مقارنة بعدد لا يكاد يصل إلى مليوني مزارع ومربي ماشية في الولايات المتحدة يستغلون مساحات معدلها الوسطي 165 هكتارًا. بالتالي، إذا ما أرادت الهند توفير الدعم إلى مزارعيها وعددهم 132 مليون على شكل تحويلات نقدية، وفقًا للضغوط المطالبة بذلك، ستواجه كابوسًا إداريًا وستكون التحويلات ضئيلة. تشكل ميزانية الهند الإجمالية، أي ميزانية الحكومة المركزية وميزانية الولايات، 15% من الناتج المحلي الإجمالي تقريبًا، ومساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي هي النسبة نفسها تقريبًا. ففي حين تدعم الولايات المتحدة في سنوات عديدة إلى ما يصل الى نصف قيمة إجمالي إنتاجها الزراعي، فإن توفير الهند لدعم مماثل من خلال التحويلات النقدية يعني تخصيص 75% من ميزانية الحكومة المزركزية الإجمالية إلى التحويلات الزراعية وحدها! بالتالي، لا يمكن توفير الدعم الفعلي للمزراعين إلا من خلال دعم الأسعار وليس التحويلات النقدية، وما يحتاجه المزارعون من أجل تحقيق استقرار مداخيلهم هو دعم الأسعار.

في أيار/مايو 2018، اشتكت الولايات المتحدة الأميركية لمنظمة التجارة العالمية، معتمدة على اسس خاطئة، من أن الهند تقدم إلى مزارعيها دعمًا كبيرًا جدًا لأسعار السوق يصل إلى أكثر من 60% من قيمة الإنتاج. إذ اعتمدت بذلك على السعر الوسطي للدولار مقابل قنطار القمح الذي كان سائدًا بين عامي 1986 و1988، أي منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتحويله الى سعر الصرف المعتمد وقتها أي 12.5 روبية للدولار الواحد، وذلك من أجل احتساب "السعر المرجعي الخارجي" للقتطار على أنّه 360 روبية، وطرحت ذلك من الحد الأدنى لدعم القمح المعتمد في الهند في عامي 1913-14 وقدره 1390 روبية لتزعم أن دعم الأسعار لذاك العام بلغ 1030 روبية للقنطار الواحد. وهكذا تجاهلت حقيقة ارتفاع تكاليف إنتاج القنطار أكثر من عشر مرات خلال العقود الثلاثة وأن معدل صرف الروبية مقابل الدولار كان 60 روبية للدولار_ فأي مزارع يعمل في زراعة القمح سيكون مصيره إما الإفلاس أو الموت إذا ما كان سعر القنظار الواحد 360 روبية. وفي الواقع، كان الحد الأدنى للدعم المقدم للمزارع الهندي في عامي 1913-14، 1390 روبية وهو أقل بكثير من السعر العالمي الفعلي أي 1936 روبية، مما يعني ان الدعم كان سلبيًا. تشكل الشكوى الأميركية مثالا جيدا على التضليل الفاضح الذي ينتهجه البلد الأثرى في العالم من خلال إجراء حسابات زائفة لمهاجمة تدابير الأمن الغذائي الشحيحة لبلد يقل دخل الفرد فيه عن 4% من الدخل العام.

لولا الدعم الزراعي المكثّف، لكان المزارع في أميركا الشمالية وأوروبا كليا خارج سياق المنافسة في السوق العالمي في مواجهة مزارعي البلدان النامية الذي ينتجون معظم المحاصيل بتكلفة أقل بكثير للطن الواحد عن مزارعي البلدان المتقدّمة. لن ترضى هذه البلدان بما هو أقل من تدمير أنظمة تخزين وتوزيع الأغذية العامة في البلدان الفقيرة. فالهدف من ذلك هو التوصل إلى تقسيم عالمي للعمل تتخلى فيه البلدان النامية عن هواجسها المتعلقة بالأمن الغذائي، وتشتري جبال البذور الفائضة التي تنتجها البلدان الثرية، وتسخّر أراضيها لملىء رفوف المتاجر الكبرى في بلدان الشمال بمنتجات تعجز تمامًا أراضي البلدان الباردة عن إنتاجها.

 

ملاحظات ختامية

أن من مصلحة الإمبريالية الجديدة إعادة هيكلة استخدام الأراضي في بلدان العالم الثالث وفقًا لمتطلباتها الخاصة بغض النظر فيما إذا كان السكان المحليون الفقراء سيبقى لديهم ما يكفي ليقتاتوا به ام لا. كما تقتضي مصلحتها استخدام أسواق العالم الثالث لتصريف الفائض من إنتاجها. يرتبط الطلب بالتحرير الكامل للتجارة في الزراعة، وبالتخلص من جميع القيود المفروضة على نمط استخدام الأراضي القائم لضمان الاكتفاء الذاتي الغذائي، وبالتخلص من المخزونات العامة من أجل الأمن الغذائي، ترتبط جميع هذه المطالب بأهداف الإمبريالية الجديدة المذكورة. تدفع بهذه المطالب من خلال وكالاتها، مثل مؤسسة بريتون وودز ومنظمة التجارة العالمية، وتسعى إلى كسب دعم النخب المحلية الحاكمة التي تم تضليلها لتعتقد بأن التجارة الحرة ستعود عليها بالثراء من خلال إرتفاع الأسعار. غير أن التجارة الحرة تتسبب بالواقع في تقلبات حادة للأسعار وتزايد المديونية وانعدام أمن الدخل.

إن التناقض الناشئ نتيجة للسياسات النيوليبرالية التي تم تفصيلها أعلاه، هو تناقض يضع مصالح السواد الأعظم من الشعب الهندي من عمال وفلاحين في مواجهة مصالح الإمبريالية الجديدة. وفّر هذا التناقض الأرضية لتوسيع نطاق النضال الدائر في الأرياف. فعلى مدار العامين الماضيين، شملت موجات مسيرات المزارعين العديدة مئات الآلاف من المتظاهرين في كل مرة، وضمت جميع فئات الفلاحين من الأفقر إلى الأيسر، وكذلك العمال الريفيين المأجورين. انضمت مؤخرًا الاتحادات العمالية الحضرية ومنظمات المجتمع المدني بركب هذه المسيرات. يُبشر هذا الإجماع حول هذه المطالب الساسية بحدوث إنقطاع تام عن الإتجهات السابقة. فهؤلاء الذين وقعوا في الماضي القريب، عن غير قصد وبسبب المعلومات المضللة، في شرك أصحاب الإيديولوجيات الآتية من البلدان الامبريالية فطالبوا بتحرير التبادلات التجارية، باتوا يدركون اليوم، بناء على تجربتهم الخاصة، الآثار السلبية للسياسات النيوليبرالية. فأخذوا يطالبون الحكومة بتوفير مشتريات بأدنى أسعار دعم لمواجهة تقلب الأسعار العالمية، فضلًا عن توفير التغطية الصحية الشاملة والمرافق التعليمية في المناطق الريفية القابعة في الحرمان. فبعد مرور أكثر من عقدين على محنة الزراعة، إنتهى صبر المزارعين.

1 السلع الأجرية هي السلع التي يسمح دخل العامل النقدي بشرائها (المدقق)

2 البيانات الخاصة بنبتة BT-cotton مأخوذة من منشورات المؤسسة البحثية للعلوم والتكنولوجيا وسياسة الموارد الطبيعية، نيودلهي.

 

تم دعم ترجمة هذه المقالة من قِبل The Leverhulme Trust  

 



إبحث
معرض الصور
آخر الامقالات
لقد حمّلنا ثلاثة مقالات قديمة حول اليمن و سوريا، م. مندي. اثنان منهما متاحان باللغة العربية والانكليزية. تجدون المقالات تحت فئة "التاريخ الزراعي"، و "حيازة الأرض"، و "المياه والري. "
هدف المؤتمر الدولي السابع للجغرافيا الراديكالية (ICCG 2015) هو توفير مكان جامع لمناقشة هذه وغيرها من الموضوعات التي تدرس الجغرافية النظرية الاجتماعية الأزمات والتطبيق العملي السياسي التدريجي. على الرغم من أهمية القضايا المطروحة، يأمل المنظمون خلق جو من المرح، والتوافق وأجواء ودية تجمع عددًا واسعًا من العلماء والناشطين والفنانين والمنظمين وغيرهم من المهتمين بالتطبيق العملي الاجتماعي والمكاني.
تقدّم ياسمين م. أحمد في مقالة هذه عدداً من القراءات التحليلية الأولية لتحرّك الفلاحين في مصر ضمن السياق الثوري، وتجاوب العديد من الخبراء القانونيين معه.
شارك
@

الفيديو الرئيسي
تحديثات الفايسبوك
تغريدات تويتر